الدولة المجردة في الإسلام- سرمدية القانون بين الفقه والسياسة.

المؤلف: أبو يعرب المرزوقي10.09.2025
الدولة المجردة في الإسلام- سرمدية القانون بين الفقه والسياسة.

لا يتأتى فهم الترابط الوثيق بين الإسلام، باعتباره الدين الخاتم، والسياسة الكونية الرامية إلى رفعة الإنسانية، إلا بإدراك كُنه ما أقصده بمفهوم "الدولة المجردة"، تلك الكينونة المتأصلة في جوهر الكونية. إذ يستحيل تصور أي جماعة بشرية لا تتوق في رؤيتها للعالم إلى نظام مؤسسي متكامل، يتولى رعاية وتأمين مختلف شروط بقائها المادي والمعنوي، بل ويعينها على تحقيق أسمى غاياتها وطموحاتها، باعتبارها نموذجًا ساميًا يلتزم به عن طيب خاطر أو إكراه جميع القائمين على وظائف هذه المؤسسات.

وإذًا، فإن المثال الأمثل للدولة المجردة يتجسد في كيان الجماعة، والفرد، والإنسانية جمعاء:

  • فهو متجسد في الكيان المادي للإنسان، الذي لا يستطيع تلبية احتياجاته العضوية الأساسية بمعزل عن الجماعة، التي تضمن له شروط الوجود والبقاء، مستمدةً ذلك من خيرات الطبيعة وعطائها.
  • كما يتجسد في الكيان الروحي للإنسان، الذي لا يمكنه إشباع حاجاته الأخلاقية النبيلة دون الجماعة، التي تصون قيمه الروحية وتحافظ عليها، مستلهمةً ذلك من عِبَر التاريخ وإرثه الحضاري.

وكلا البُعدين المكونين لكيان الإنسان، فردًا وجماعة، ينطويان على نمطين من التجليات، سواء في الجسد والجغرافيا، أو في الوعي والتاريخ:

  • تجلي كوني سرمدي، يمثل الشروط الأزلية لوجود الإنسان وبقائه، سواء على الصعيد العضوي أو الروحي، بوصفه كائنًا مُعمِّرًا للأرض ومستخلفًا فيها، يمتلك وعيًا بالمثال الأعلى، سواء كان هذا الوعي دينيًا أو طبيعيًا، وهو أساس الحاجة إلى الأديان، السماوية والوضعية على حد سواء.
  • وتجلي عيني تاريخي، يمثل الشروط المتغيرة لوجود الإنسان وبقائه، سواء على الصعيد العضوي أو الروحي، وذلك في سعيه الدؤوب لتحقيق هذه الشروط قدر الإمكان، تأسِّيًا بالمثال الأعلى أو مساواةً بين الواقع والمثال.

قبل الخوض في دراسة العلاقة المتشابكة بين الفقه والقانون، والتناظرات الدقيقة بين مقوماتهما، أود التنبيه إلى موقفي المغاير تجاه ما يُعرف بـ "علم المقاصد"، المنبني على موقفين يتعارضان جوهريًا مع أسس الشريعة الإسلامية ومرتكزاتها العقدية، وعلى رأسها مبدأ "مرجعية التشريع لإرادة الله"، وحتى مع أسس القانون الوضعي ومرتكزاته العقدية، وعلى رأسها مبدأ "مرجعية التشريع للطبيعة الإنسانية".

فالتشريع الوضعي ذاته لا يستغني عن مبدأ سامٍ يتعالى على إرادة الإنسان الفردية، بل ينسبه إلى الطبيعة، في تناظر بديع مع نسبة التشريع الفقهي إلى إرادة الشارع الحكيم. غير أن البعض يحاولون عبثًا رد الأساس الأول إلى الأساس الثاني، فيجعلون تشريع الله بمنزلة تشريع الإنسان، وينفون عنه صفة السرمدية، ويضفون عليه صبغة التاريخية الخالصة. إلا أن القانون الوضعي لا يفعل ذلك البتة، فهو لا يرد مرجعيته الطبيعية إلى التاريخية، وإلا لادعى الإنسان زورًا وبهتانًا قدرته على تشريع الطبيعة، خلطًا بينها في ذاتها وبين ما يدركه منها.

  1. لا يجوز الادعاء بأن الشرع، وهو تعبير عن إرادة أحكم الحاكمين، يحتاج إلى تطوير أو استكمال من قِبَل أصحاب المقاصد، فالله تعالى لا تخفى عليه خافية، وحكمه هو الفيصل في شؤون العباد.
  2. ولا يسوغ لمن يسعى لاستكمال الشرع أن يغفل عن حقيقة أنه بذلك يختزله في القانون التاريخي، متجاهلًا الغيب، مدعيًا الإحاطة المطلقة بكل ما في الوجود، وردًا للكون برمته إلى عالم الشهادة وحده.

لذا، قد يستغرب القارئ رفضي القاطع للخوض في مقاصد الشريعة كما يتبناها البعض، ممن يعتبرونها أداة لاستكمال نصوصها، استنادًا إلى تأويل يزعم حاجتها إلى ذلك، متوهمين أنها تتطور تاريخيًا على غرار القانون الوضعي، متناسين الثوابت الراسخة في أي قانون، السماوي أو الوضعي على حد سواء.

إذن، فمقاصد الشريعة التي تتجاوز المشترك بين ما هو أزلي في القانون، سواء كان وضعيًا عقليًا أو إلهيًا نقليًا، ليست مما يشتركان فيه، بل هي بمثابة تحريف للقانون الإلهي في القانون الوضعي. فالشريعة تتضمن الكوني في شروط قيام الإنسان، بوصفه مُعمِّرًا للأرض بقيم الاستخلاف، بينما يختزلها القانون الوضعي في رؤية قاصرة تجعل الإنسان مُشرِّعًا دون تمييز بين السرمدي والتاريخي، وهو ما يعنيه القرآن الكريم بالتحريف الذي شاب الأديان السماوية، والذي تصدى له القرآن بمنهج التصديق والهيمنة.

ما هي السرمديات التي يمكن اعتبارها مقاصد غيبية في كل قانون، وضعيًا كان أو دينيًا؟ إنها ما يُعرف خطأً بالمقاصد الضرورية الخمس الكونية، التي تنطبق على كل جماعة بشرية، لأنها من صميم شروط قيام الفرد والجماعة على الصعيدين العضوي والروحي. وترتيبها القانوني في الشريعة الإسلامية، من الأشد إلى الأضعف، يعكس رؤية الفضاء المحقق للعدل في التبادل والصدق في التواصل بين البشر، بوصفهم مُعمِّرين للأرض ومستخلفين فيها:

  1. السرمدي الأول: حق الملكية، لأنه شرط إرادة الفرد الحرة واستقلاله النسبي عن الجماعة، وهو أساس التساخر الذي يجعل كل فرد في الجماعة خادمًا لها ومخدومًا منها في تلبية الاحتياجات الضرورية لبقائه حيًا وذا مناعة عضوية.
  2. السرمدي الثاني: النسل، لأنه شرط التكاثر والبقاء، وعماد إرادة الجماعة وأساس وجودها واستمرارها عبر الأجيال، بحيث يكون الثاني مرتبطًا بالأول ونابعًا منه. وتتجلى هذه العلاقة في الزوجية التي تضمن إنتاج الفرد، وفي حاجة الإنسان إلى فترة طويلة ليصبح مستقلًا عن الجماعة، وهو ما يفسر وجود الأسرة بمختلف مستوياتها.
  3. السرمدي الثالث: كرامة الأفراد في الجماعة والجماعة في الجماعات، وهو جوهر التوازن بين المقومات السرمدية السابقة واللاحقة. فالوعي بالكرامة في كل تشريع، سماويًا كان أو وضعيًا، هو المحرك الفعلي لحرية الإرادة، ويتجلى في الأول والثاني تعبيرًا عن حفظ الكرامة والسعي للتحرر من العبودية.
  4. السرمدي الرابع: المرجعية الغيبية المتعالية على الأمر الواقع، والتي تحدد الأمر الواجب في جميع الأحوال، سواء في الأديان أو في الفلسفات الوضعية. والفارق بين المؤمنين وغير المؤمنين يكمن في تأليه الطبيعة، وليس في نفي التعليل المتعالي على إرادة الإنسان، فكل إنسان، مؤمنًا كان أو ملحدًا، لا بد له من مرجعية متعالية.
  5. السرمدي الأخير: العقل، تلك الهبة الإلهية التي زُود بها الإنسان ليعمل بإدراك قد يكون حكيمًا أو قاصرًا، لحماية ذاته فردًا وجماعة. وهو الاجتهاد الذي يتيح للإنسان أدوات الجهاد من أجل المحافظة على هذه السرمديات في وجوده وبقائه. فالمحافظة على السرمديات هي أصل الغايات، والعقل هو أصل كل الأدوات.

إذن، فالنظام القانوني بنوعيه، من حيث السرمدي فيه، متجسد في كيان الإنسان، بوصفه مُعمِّرًا للأرض بحاجة إلى نظام يسد احتياجاته المادية، ومستخلفًا فيها بحاجة إلى نظام يشبع حاجاته الروحية. ومجموعهما هو الدولة الكونية الملازمة للإنسانية، تلك الدولة المجردة التي تتجسد في أنظمة التربية والحكم عبر تاريخ البشرية.

وتكون الغايات المتعددة هي الاستعمار في الأرض، وهو ثمرة المحافظة على السرمديات التي هي أصل كل الغايات المادية، أي التي لا بد منها لسد الحاجات المادية لقيام الإنسان العضوي، وقد سماها ابن خلدون: "العمران البشري" في عنوان المقدمة، أو التنازل، أي المشاركة في المنزل لسدّ الحاجات المادية في الرعاية والحماية. وذلك هو جوهر الرعاية تكوينًا وتموينًا للإنسان، وقد جهّز الإنسان بما يمكنه من ذلك هو البحث العلمي ومراكمة التجارب وتوارثها في التاريخ الإنساني.

وتكون الأدوات المتعددة هي الاستخلاف في الأرض، وهي ثمرة المحافظة على السرمديات التي هي أصل كل الغايات الروحية أي التي لا بد منها لسد الحاجات الروحية. وقد سماها ابن خلدون: "الاجتماع الإنساني" في عنوان المقدمة أي التنازل، بمعنى أي المشاركة في المنزل من أجل الأنس بالعشير. وذلك هو جوهر الحماية داخليًا وخارجيًا، وقد جهز الإنسان بما يمكنه من ذلك أي البحث الاستعلامي ومراكمة التجارب وتوارثها في التاريخ الإنساني.

إذ لا يمكن للأنس أن يتحقق دون أمن، أي دون امتلاك شروط القيام العضوي، شرط المناعة العضوية، وامتلاك شروط القيام الروحي، شرط الحصانة الروحية. وبذلك يتضح معنى الاسم المضاعف الذي سمى به ابن خلدون ثورة المقدمة. فالاسم يسمي نوعي المقومات السرمدية الواحدة في كل الجماعات البشرية مهما تنوعت تعيناتها التاريخية.

  • لا بد من تحقيق شروط العمران البشري، شرط وجود.
  • ولا بد من تحقيق شروط الاجتماع الإنساني، شرط بقاء.

وإذن فكل جماعة ذات دستور سياسي مثالي هو نموذج دولتها سواء تعينت في العادات والتقاليد والعرف دون صوغ دستوري صريح، أو صاغتها في دستور صريح:

  • "العمران البشري للوجود أولًا.
  • والاجتماع الإنساني للبقاء ثانيًا".

وذلك هو مجال القانون والفقه على حد سواء في كل الجماعات البشرية. وهذه المقومات الضرورية لقيام الإنسان عضويًا وروحيًا، كما هي مشروطة في مصدر المقومات، مشروطة كذلك في كيان القائم بفضلها؛ أي الإنسان الذي ينبغي أن يكون قد جهز بما يمكنه من تحقيقها. وهذا الجهاز مضاعف فهو:

  • الإرادة الحرة، شرط وجود.
  • الحكمة الراجحة، شرط بقاء.

ومن ثم فحرية الإرادة والتكليف والمسؤولية، هي جوهر ما يسمى خطأ مقاصد؛ لأن مقاصد الخالق أو الطبيعة بوصفهما مرجعيتين، مؤمنة وملحدة، ليست معلومة فيما يتجاوز الشروط السرمدية لقيام الإنسان العضوي والروحي في المشهود من الوجود.

فالسرمدي في القانون والفقه هو ما لا يمكن للإنسان أن يوجد من دونه أولًا، وأن يبقى ثانيًا. وذلك هو معنى شروط الاستعمار في الأرض (التي يستمد منها مقومات حياته) بقيم الاستخلاف فيها (التي يستمد منها مقومات نظامها السوي).

وذلك جوهر المعلوم منه؛ لأنّ التكليف دليل على وجود الإرادة الحرّة قبل التكليف والمسؤولية دليل على بقاء التكليف بعدها. فتكون الإرادة الحرة متضمنة للتكليف المسؤول. وذلك ما يجعلها عين قلب المخمس الذي يسميه المقاصديون بشرط فهمها السرمدي الذي لا يمكن أن يتغير لأنها ممثلة لثوابت كل تشريع غير محرف لمرجعيته التي هي أخلاق تعامله:

  • في التبادل العادل؛ لأن نقيض العدل هو الظلم الذي يمثل أصل كل النزاعات البشرية حول شروط الوجود سواء كن ظلمًا فعليًا أو حتى متوهمًا.
  • والتواصل الصادق؛ لأن نقيض الصدق هو الخداع الذي يمثل أصل النزاعات البشرية حول شروط البقاء سواء كان خداعًا فعليًا أو حتى متوهمًا.

ومن ثم فالنزاعات بين البشر مدارها كله ذو علاقة بشروط القيام العضوي، وهو النوع المتعلق بالتبادل؛ بسبب تقاسم العمل في الجماعة والتساخر في العمل الذي يترتب عليه وبشروط القيام الروحي، وهو النوع المتعلق بالتواصل بسبب تقاسم النظر في الجماعة، والتساخر في النظر الذي يترتب عليه.

ولما كان هذا السرمدي في العمل وفي النظر، كلاهما لا ينتج عن معرفة عملية أو نظرية مطلقة ومحيطة، فهو من ثم مفهوم مجرد مختلف عن تعيناته التاريخية التي نتعامل معها تعاملًا يقتضي التمييز بين الغاية المثالية والواقع النسبي، وهو ما يقتضي وجود النظام الممكن من العمل الذي يقتضي أن يكون سعيًا دائمًا نحو الغاية، وتلك هي تاريخيته، ومثله العلم فيقتضي أن تكون قيم العمل وقيم العلمية نسبية التحقق وتاريخيته ومتعالية الحقيقة وسرمديته.

فيتحدد بذلك معنى التكليف؛ ما المسؤولية وحدود حرية الإرادة ورجاحة الحكمة، وهو جوهر العبادة في الإسلام؛ لأنها لا تقتصر على الشعائر التعبدية التي هي من علاماتها وليست إياها. وإذا كان اللجوء للخرافة المقاصد حلًا لما يريد استكماله من التشريع المظنون تاريخيًا فالعلة مضاعفة:

  • أولًا: السعي للتخلص من الأحكام التي تبدو غير مناسبة للعصر الحديث وهذا علته الخلط بين الحكم ومقدار العقوبة في الأحكام الفقهية.
  • ثانيًا: السعي لإضافة ما يظن ناقصًا في التشريعات في نظام الأسرة مثلًا أو الميراث الذي يبدو غير مناسب للعصر.
  • ثالثًا: فيكون المشكل كله في محاولة إخضاع الشريعة للتاريخ وتقريبها من القانون الذي يظن تاريخيًا من حيث مرجعيته وليس من حيث تعيناتها.
  • رابعًا: ومن ثم فالمقاصدية تريد رد المرجعية الدينية إلى تاريخية التعينات في القانون الوضعي للغفلة عن الفرق بين السرمديات والتاريخيات فيها وحتى في القانون الوضعي.
  • وخامسًا وأخيرًا: فالعلة في هذه الإغفال هي توهم العلم محيطًا (مسألة إبستمولوجية) والعمل تامًا (مسألة أكسيولوجية) بحيث لا توجد مسافة بين واقع الأمر وواجبه في المنظور الإنساني لحدود علمه إبستمولوجيًا وعمله أسكيولوجًيا:
  • فيترتب على ذلك إبستمولوجيا رد الحقيقة إلى ما ندركه منها توهمًا لوجود علم محيط يتطابق فيه علمنا مع الوجود في ذاته.
  • ويترتب على ذلك أكسيولوجيا رد الحق إلى ما نعمله منه به منه توهمًا لوجود عمل تام يتطابق فيه المنشود مع الوجود في ذاته.

لكنّ الديني واللاديني كلاهما بات يميز في كل شيء بين واقع الأمر منه وواجبه في الحقيقة وفي الحق. فلا العلم محيط ولا العمل تام. والاعتراف بعدم الإحاطة في النظر وعدم التمام في العمل هو الموقف الوحيد الذي يجعل العلم اجتهادًا لا متناهيًا والعمل جهادًا لامتناهيًا، والأول سعي دائم لطلب الحقيقة، والثاني سعي دائم لطلب الحق.

ولهذه العلة فالتسليم بالسرمدية مثاًلا أعلى يستمد منه نموذج التاريخي، هي في آن أساس الأخلاق التي هي مرجعية القانون سواء كان دينيًا أو وضعيًا أعني شروط وجود الإنسان فردًا وجماعة وبقائهما والعيش المشترك بين البشر شرط التساخر؛ أي تقاسم العلم والعمل الضروري للرعاية والحماية، وبهذا المعنى فرجاحة العقل أداة، وصلابة الإرادة غاية. ومن هنا كان حرص التربية القرآنية على الحفاظ على البأس الذي يفسد غيابه معاني الإنسانية؛ أي القدرة على رعاية الذات وحمايتها في الرؤية القرآنية، كما فسرها ابن خلدون في التمييز بين نوعي التربية والحكم المحررين من العبودية لغير الله.

وهكذا فلا يمكن الكلام على القانون والفقه من دون تحديد طبيعة الحاجة الكونية إليهما مهما تمايزت كيفياتها العينية الظرفية، وهو القصد بالسرمدية في عالم الشهادة دون معرفة الغاية من الوجود والبقاء سواء نسبناهما إلى فعل رب خالق أو طبيعة صانعة.

وهذه الطبيعة تحددها المعادلة الوجودية التي عرفتها الآية 53 من فصلت عندما حددت آيات الآفاق وآيات الأنفس أي ما يريه الله (عند المؤمن) والطبيعة (عند الملحد) لكي تتبين له حقيقة المرجعية التي تذكره بها بالمقابلة بين الأمر الواقع في وجوده الشاهد وما يمكنه من التعالي عليه فيما يفسر به أحداثه في التاريخ الفعلي دون أن تكون منه بل هي ما وراءه الذي يعد مرجعية للأمر الواجب.

والمعادلة الوجودية هي آيات الآفاق (الطبيعة والتاريخ)، وآيات الأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي أي وعيه بكيانيه وبأفقيه وبما وراءهما المتعالي عليهما) هي التي برؤيتها والسعي لفهمها يحقق الإنسان سعيه للوصل بين أمره الواقع وأمره الواجب، وذلك هو الأخلاق في الوجود الإنساني أي العمل (الجهاد) على علم (الاجتهاد). وذلك هو مضمون سورة العصر بالمقابلة بين الخسر، وشروط الخروج منه بالإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق (اجتهادًا) والتواصي بالصبر (جهادًا).

وبهذا يمكن فهم عبارة "لا ينبغي لأحد أن يحتج بالجهل بالقانون" فلا ينبغي عدها دالة على العلم بالقانون في تعينه؛ لأن ذلك لو كان كذلك لكان يعني الاستغناء عن الحاجة إلى المحامين والقضاة. المعنى العميق هو التمييز بين السرمدي منه والتاريخي. فالأول يتعلق بالعدل في التبادل والصدق في التواصل من حيث المبدأ، والثاني يتعلق بالنظام التاريخي الذي يضبط تعين تطبيقهما في حدود الإمكان؛ لأن مبدأي العدل والصدق كلاهما منتسب إلى السرمدية في القانون من حيث هو مثال أعلى يضفي الشرعية على الأحكام القضائية، بما فيه التطبيق من سعي إليهما، والقرب منهما.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة